azhar azhar

منذ 7 أشهر

وجدانيات - المفتي الراحل الشيخ خليل الميس رحمه الله

الدكتورة أسماء القادري

الدكتورة أسماء القادري

كاتبة ومحاضرة

بسم الله الرحمن الرحيم

يعد البقاع محروما منذ حقبة التسعينات - وحتى الآن- لا تأبه له الدولة، ولا يوجد من يتبنى فكرة النهوض بالمجتمع البقاعي و لا الاستثمارفيه..فالبقاع لا يحق له أن يخرج الأطباء والعلماء، ولا يحق للمرأة أن تخرج من قوقعة الجهل، بل تحارب لتصل مع معوقات كثيرة تحول و وصولها للعلم سواء الشرعي أو غيره..أمام هذا الحرمان الذي لمسه سماحة المفتي الشيخ خليل الميس أقدم على بذل الغالي والنفيس لإنشاء الأزهر في البقاع سنة 1985 على تلك الهضبة في مجدل عنجر، لتكون واحات إيمانية ومحاضن لأجيال من المسلمين البعيدين عن دينهم ..فكانت مؤسسات الأزهر ملجأ الحائر والباحث عن هويته من لبنان وغيره ..وكانت نظرة صاحب السماحة أعمق تجاه الأسرة فهي التي تربي الأجيال و بالتالي تحتاج أكثر من غيرها لتحصينها بالعلم الشرعي.. إن حضور المرأة المسلمة درس العلم النافع في المسجد، وغشيانها حلقات الذكر، محتسبةً خطواتِها التي تمشيها من بيتها إلى المسجد، وانطلاقا من نية خالصة لله تعالى، وعزيمة صادقة على المثابرة، على تعلم العلم الذي يعرف به الله، وتتحقق به خشية المسلمة لربها، لهما من أهم الاسباب في نهضة هذه الأمة.

لذا كانت نظرة سماحته للمرأة المسلمة أن تحرص على حضور درس العلم، وتوفير الوسائل المساعدة لها فكانت دروس العلم تنقل بوساطة إذاعة الأزهر وكذلك خطب الجمعة ليتسنى للمرأة سماعها والاستفادة منها وهي تقوم بأعباء أسرتها بدون حرج، وهي بذلك تزيل الجهد عن نفسها، وتحسن عبادتها لله تعالى، وكانت فكرة الدرس الاسبوعي للنساء ، وقد عرف بدرس الإثنين حيث تعود سماحته على القاء الدروس لمدة لا تقل عن ثلاثين سنة ، وما انقطع أو توانى عن القاء هذه الدروس بل جعل موعدها مقدساً ..و هكذا يوم وفاته بكت النساء من علمهن بأسلوب مبسط حتى يظنه المار يتحدث لإحدى بناته أوحفيداته .. و كان الدرس فرصة لتتعرف المرأة على أخواتها المسلمات ..وتتعرف على عالمٍ رباني همه الدعوة لله عزّ و جلّ.. فمنه تعلمنا التواضع وحسن الخلق، ومنه تعلمنا أوليات الفقه وبساطة الدين، وكيف نستن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الفوائد والثمار التي جنتها النساء من متابعة حضور درس الاثنين..تقول إحداهن:"علمنا الوضوء والصلاة ..والستر والحياء..رحمه الله كان مربياً ومحبباً لروح الشريعة ببساطة الالقاء ولطافة الاستقبال حتى تظن كل واحدة أنها المميزة" .

أليس درس العلم وجلسات حفظ القرآن، وتلاوته، وتجويده هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)..هذا هو ما قصده الشيخ خليل الميس للأزهر ..سكينة ورحمة وعلم ومسلم ومسلمة يعرفون دينهم..و ملاذ للمرأة وللأم والفتاة..و سكن للروح.

إن كثيراً من النساء بالأمس واليوم لا يعلمن من الدين إلا القليل، فهي تتعتع في تلاوة القرآن، ولا تعرف فقه الصيام، وتتخبط في أحكام العمرة والحج وإن سافرت لتأديتها، إلى غير ذلك من أبواب العبادات والمعاملات، وعلاج ذلك كان بفتح باب العلم ولا يكون إلا بمقاعد الدراسة والقراءة، و حضور دروس العلم..فكانت الثانوية الشرعية كأول خطوة في البقاع للمرأة المسلمة..وكان هدف سماحة المفتي إن المرأة الصالحة هي التي تحاول أن تأخذ بحظ وافر من العلم الشرعي انطلاقا من قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه:114]، وقوله تعالى أيضا: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر:9].

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين). لذا سعى سماحته بكل جهده لحمل الأمانة على عاتقه وأكمل المسيرة وتوج جهوده بجامعة الأزهر التي فتحت أبوابها للنساء والفتيات المتعطشات للعلم ..تقول إحداهن:" تركت مقاعد الدراسة منذ أحد عشر عاماً حتى لم أعد أمسك قلماً أو أقرأ كتاباً فكان الأزهر أملي مجدداً للعودة للعلم وأي علم أروع من العلم الشرعي".. يقول الرسول الكريم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

 

كانت مجالس العلم مع سماحة المفتي الميس كالجنان للطالبات التي وجدت في المفتي الأب والمعلم والمربي والعالم الذي يخاف على كل واحدة منا من الضياع..وعبارته الشهيرة :"بربكم شو عم تعملوا برات الأزهر خليكم بالأزهر وعيشوا مع الكتب والعلم"..كان يبرز حاجة المرأة للدين والفقه على وجه الخصوص، فمكانة المرأة بتحصيلها العلمي الذي به تخشى الههن عزّ و جلّ وتحافظ على بيتها وأولادها.. فهذه الصحابية أم الدرداء تقول عن نفسها: لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما أصبت لنفسي شيئا أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم..وهذه أم الخير الحجازية في القرن الرابع الهجري تصدرت حلقات وعظ وإرشاد المسلمات بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه.. وهذه فاطمة بنت السمرقندي كانت عالمة بالفقه والحديث، أخذت العلم عن جملة من الفقهاء، وأخذ عنها كثيرون، وكان لها حلقة للتدريس، وألفت مؤلفات عديدة في الفقه والحديث.. وهذه زوجة الحافظ الهيثمي كانت تساعد زوجها في مراجعة كتب الحديث..وهذه أم زينب فاطمة بنت عباس البغدادية كانت تصعد المنبر، وتعظ النساء، وانتفع بتربيتها والتخرج عليها خلق كثير، وكانت عالمة موفورة العلم في الفقه والأصول.

ويتعجب المرء عجبا شديدا ومخيفا في الوقت نفسه، عندما يرى بنات المدارس والجامعات ومدى إقبالهن على العلم الدنيوي والحرص عليه، وبذل الوقت والجهد في تحصيله من أجل قروش زهيدة، أو مكانة اجتماعية زائلة، ثم لا يرى منهن ولو النزر اليسير في السؤال عن دينهن، والحرص على طلب العلم فيه !..وكان الشيخ خليل كما يحب أن نناديه صاحب بصمة في تعلق الكثيرات في الجامعة فلدروسه الحصة الأوفر في التأثير بأي كان على الاستمرار في التعلم بالأزهر، كما أنه استقدم علماء بارزين يساندونه في رغبته العارمة بنشر العلم بين أهل البقاع ولبنان بل والعالم أيضا.

 

قال الحسن رضي الله عنه: لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم..فلو لم يكن هناك عالم، فمن يفتي الأمة؟ ومن يجادل أعداء الله؟ ومن يدافع عن الدين؟ ومن يقيلنا من عثرتنا ؟.. و شخصيا بعد إنهاء دراستي الجامعية بزحلة وحصولي على ليسانس في التاريخ لم أجد أنني قد تلقيت علماً يرتاح له قلبي، ففكرت بالتاريخ الإسلامي وإكمال الماجيستر ببيروت و لكن حالت الظروف دون ذلك لمشقة الطريق وفكرة تركي لصغيرتي لوقت طويل..وسألت سماحة المفتي الميس عن فتح باب الدراسات الإسلامية في البقاع فسألني :"هل تريدين شهادة أم علماً ينتفع به..ابدأي بالعلم الشرعي في جامعتنا".. ولأولِّ مرةٍ أدخل محراب جامعة الأزهر، و عندما قررت إكمال دراستي وجدت أبجديتي ناقصة لا تطيعني وعلمي هباء في هذا المحراب ..ففي الأزهر علماء ومشايخ يعطونك من رحيق العلم الصافي بأخوة وسلاسة ..و صرت أستجدي خطاهم فأتعثر أمام مداد وسعة علمهم ولربما أتهيَّبُ النظر إلى محياهم، أو الحديث عن غزارة علمهم كوني لن أوفيهم حقهم..

 

فالأزهر إن أعطيته من روحك سيصبح بيتك ومأواك ومسكنك وبسمتك تطوف فيه بروح شبابية، فهو يعطيك الدافع والاستمرار وكيف لحجر ومكان أن يسرق منا أحلامنا فنبتسم.. أجل الأزهر فيه حلمك وأملك لذا ارتبط بك أنت يا سماحة الوالد ولن يفترق عنك ليوم القيامة فستأتيه وتطوف بأرجائه كعادتك تزيح الغبار من هنا وتفتح الستائر عن النوافذ ليدخل نور الشمس كما كنت تحب.. الأزهر منذ أيام كان وفياً لك بالمؤتمر العلمي وفاء لصاحب الفكرة والبنيان.. ضج بصدى اسمك والدعاء لك وحري به أن يبقى وفياً للأبد فأنت من رسمت طرقاته وأنت من حملت طوبه وأخشابه..سيبقى يحمل لك هدايا الدعاء بلسان طلابك ..

يا سماحة الوالد غص المحاضرون بذكر مناقبك، منهم الصديق ومنهم القريب ومنهم التلميذ.. محاضرون من كل الفئات والاختصاصات.. وكنت أنت العنوان والمحور في الحديث.. وتكررت أقوالهم وعباراتها ...رحل العالم.. رحل المفتي.. الشيخ.. العالم.. الدكتور، رحل أجل لقد رحل.. قد تبدو الكلمات سهلة عنك حين نرددها في مجالسنا، ولكننا عرفنا الآن أننا نشتاق لكلماتك أنت على المنبر لتحدثنا وتحدثنا ولا نتعب من الحديث ولا من الكلام، إننا في الحقيقة نبكي أنفسنا إن بكينا.. نبكي تقصيرنا.. نحن لمقاعد جلسنا عليها بفضل الله أولاً ثم بفضلك..

يا شيخي  خليل  فقدك كبير ولن يملأ هذا الغياب إلا من تأسى بأمثالك وأخلص لهذه الأمة..إن ما علمتنا إياه سيبقى بعد رحيلك من هذه الحياة الدنيا  ، فقد كنت لا تهتم إلا بالدعوة لله سبحانه، و لم يكن همك المنصب بل الإنجازات..

يا سماحة المفتي الشيخ ستحيا بأفئدة محبيك ووجدانهم لأن بصمتك كانت رائعة عملا وقولاً..و المؤتمر التكريمي لذكراك  ما هو إلا بذرة خير من بذور واحاتك التي أغدقت بها على بقاعك وعلى إسلامك..سنذكرك بالخير دائماً يا سماحة الوالد.

اضف تعليقاً

ابق على اطلاع بالاشتراك بنشرتنا البريدية ...

و ساعدنا في تغيير حياة المزيد