azhar azhar

منذ شهرين

المرجعيات السنية في لبنان بين الثابت و المتحول

الدكتور نادر جمعة

الدكتور نادر جمعة

مدير مركز البحث العلمي

تمثل المسلمين في لبنان قوى ثلاث تجسد المرجعية الدينية و السياسية و الاجتماعية لجماعة المسلمين، و هي: المؤسسة الدينية الرسمية (دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية) و رئاسة مجلس الوزراء (رئيس الحكومة اللبنانية) و القوى و الحركات السياسية الإسلامية و الوطنية. و السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: من الذي أعطى لهذه القوى مجتمعة و متفرقة حق تمثيل المسلمين؟ و ما هي الآليات و الوسائل المعتمدة في اختيار الممثلين الفاعلين ضمن هذه الأطر التنظيمية سالفة الذكر؟ و هل القرارات التي تصدرها و الممارسات التي تقوم بها ملزمة للجمهور الأعظم من المسلمين في لبنان؟ و كيف و متى يمكن الخروج على هذه المجالس التمثيلية؟ و هل يحق لأي مواطن مسلم في لبنان تحقير الفعل الديني و السياسي و الاجتماعي الذي تقوم به أم لا؟ ما هي حدود التفويض الممنوح لهذه القوى كي تنوب عن الأمة في تصريف الأمور و البت في القضايا المصيرية؟ و هل هي ملزمة بإطلاع المواطنين على كل كبيرة و صغيرة أم لا؟ ما هي الثوابت و المتغيرات التي تحكم مسار و مسير هذه الهيئات التنظيمية التمثيلية؟ و من هو الحكم الصالح للبت في النزاعات التي تنشأ بينها أو مع المواطنين؟ و بأي معنى يمكننا فهم و تفهم جدلية العلاقة بين الناس و ممثليهم على صعيدي التكتيك و الاستراتيجيا؟ هل يجوز لهذه القوى أن تغامر بحقوق الطائفة على صعيدي الأمن السياسي-الاقتصادي و الاجتماعي-الديني؟ ثم إلى أي مدى يمكن اعتبار التسويات السياسية الكفيلة بحماية الجماعة و الوطن تنازلاً و تخلياً؟ أم أن الواقعية السياسية و المتغيرات الإقليمية و الدولية تفرض على هذه القوى الموازنة بين النظرية/المثال و الواقع/المأزوم من أجل الحفاظ على المكتسبات و العبور إلى الدولة الآمنة و المستقرة؟


دعا الإسلام إلى المحافظة على كليات خمس عليها تقوم قواعد الإسلام، و هي: حفظ الدين، و حفظ النفس، و حفظ العقل، و حفظ النسل، و حفظ المال؛ و أساسها كما هو مقرر عند جمهور العلماء حفظ الدين على أصوله المقررة عليها و قواعده الثابتة المعتبرة، لذلك قدم حفظ الدين على باقي الكليات بحسب الترتيب الأصولي المعروف، إلا أن سلطان العلماء العز بن عبد السلام قرر أنه في بعض الأحيان يكون حفظ النفس أولى و أهم من حفظ الدين، يقول العز بن عبد السلام:"إذا كان المسلمون من قلة العدد و العدة بحيث لا يستطيعون إنزال النكاية بعدوهم وجب الانهزام"، و في ذلك تمكين للدين من خلال حفظ النفس الذي يعتبر مقدمة لحفظ الدين في الآجل، و بما أن الشريعة كما ذكر ابن قيم الجوزية تقوم على حفظ مصالح الناس في عاجل أمرهم و آجله، لذلك أجاز العلماء و منهم العز بن عبد السلام تقديم حفظ النفس على حفظ الدين، و له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل يوم الحديبية أثناء تفاوضه مع سهيل بن عمرو موفد المكيين آنذاك أن يحذف كلمة "رسول الله" و أن يضع مكانها "محمد بن عبد الله"، قائلاً له:" لو نعلم أنك رسول الله لما قاتلناك"، ثم إن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب و في أكثر من مناسبة أوقف نصاً قرآنياً بمقتضى السياسة الشرعية، و ذلك من أجل تحقيق مصلحة معتبرة للمسلمين، مثل: إلغائه سهم المؤلفة قلوبهم الثابت بنص القرآن الكريم، و عدم قسمته أرض السواد بعد القادسية و تحويلها إلى وقف دائم للمسلمين مخالفاً الحكم المقرر في النص القرآني و التجربة النبوية في تقسيم الغنائم، إلى غير ذلك من الأدلة و الشواهد و لم يخالفه أحد من صحابة رسول الله فكان إجماعاً و تشريعاً للأمة خارج منطوق النص الديني (كتاباً و سنةً).
إن الحراك السياسي-الاجتماعي الناظم لعمل القوى الممثلة للمسلمين السنة في لبنان داخل ضمن دائرة البشري الاجتهادي المصلحي، و هو قابل للتغير و التبدل على قاعدة:"حفظ النفس" التي حض عليها القرآن الكريم قال تعالى:(و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)المائدة/32، و لا يخفى على المراقب الموضوعي و المنصف أن منطقتنا العربية و منذ عشر سنوات أو يزيد تتعرض لتهديد بنيوي على مستوى الفكر و السلطة و المجتمع، جعل الدولة العربية الحديثة كأداة ناظمة للمجتمع سلطوياً و اقتصادياً و ثقافياً في عين العاصفة التي بدأت تجتاح كل شيء البشر و الحجر، ما يفرض علينا جميعاً المحافظة على العمران البشري و البناء الثقافي الحضاري الذي يمثل رمز هويتنا و أصالتنا وحضورنا عبر التاريخ.


ثم إن الشورى كما هو معلوم ليست ملزمة للإمام كما هو مقرر لدى الفقهاء، فللإمام بعد شورى الناس العمل برأيه الخاص دون أن ينزل عند رأي أصحاب الشورى، قال تعالى:(و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله)آل عمران/159؛ و لما كانت السياسة هي العمل في حدود الممكن، و حيث إن المرجعيات الدينية و السياسية للمسلمين في لبنان تمر في ظروف صعبة جداً، و تمارس عليها ضغوط هائلة من الداخل و الخارج، فإنه يتوجب على الأمة الوقوف إلى جانب ممثليها و النصح لهم و الأخذ على أيديهم، لأن أعداءنا يحاولون الفصل بين القيادة و الجماهير من أجل الاستفراد بالقيادة أولاً، و الانقضاض على الجماهير تالياً، و قديماً قال الشاعر:
تأبى العصي إن اجتمعن تفرقاً و إذا افترقن كسرت آحادا
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يخفي تحركاته السياسية و العسكرية عن أصحابه رضوان الله عليهم، و ذلك من باب الحيطة والحذر و الحفاظ على سرية المعلومات كي لا تقع عليها مسامع و أبصار أعدائه ما يسبب فشل مخططاته عليه الصلاة و السلام.
و الوحدة بين المرجعية و الأمة هي المحور الأساس الذي يقوم عليه فكر أهل السنة و الجماعة، و الدليل على ذلك أنه و في كل مرة تعرضت فيها وحدة الأمة للخطر و الزوال كانت عناصر و مكونات المجتمع المسلم تتضافر من أجل الحفاظ على وحدة الأمة و الجماعة؛ فقد ظهر مصطلح الجماعية كما تروي كتب التاريخ بعد سقيفة بني ساعدة و ما جرى فيها و خلالها من انقسام كاد يودي بوحدة المسلمين آنذاك على خلفية اختيار حاكم للمسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى أن اتفقت كلمتهم على أبي بكر الصديق؛ و بعد صفين و ما نجم عنها من اقتتال داخلي هز سكينة الخلافة الراشدة وقتذاك تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان حتى بات ذلك العام 41هــ يعرف بعام الجماعة، إلى أن كانت العقيدة القادرية التي جمع الخليفة العباسي القادر بالله المسلمين عليها محققاً بذلك الوحدة السياسية و العقيدية للمسلمين فيما عرف تاريخياً و إلى يومنا هذا بمصطلح "أهل السنة و الجماعة"، وبذلك توحدت الأمة مجدداً خلف القيادة السياسية للمسلمين (الخلافة العباسية) و المرجعية العقيدية التشريعية (الكتاب و السنة)، و عليه فأن رمزية مفهوم "أهـل السنة و الجماعة" تكمن في الولاء للدين و الوفاء و الانتماء للقيادة السياسية.
من هنا فإن هذه المرجعيات الثلاث الشار إليها آنفاً، و الرسمية منها على وجه الخصوص مفوضة في اتخاذ القرارات و التدابير التنظيمية التي تراها باجتهادها صحيحة، و ذلك بمقتضى الوكالة الممنوحة لها من قبل الجماعة (المواطنين)، و هي وكالة عامة لا تنزع عنهم إلا وفق أصول و آليات و ضوابط نص عليها الفقهاء كما الدستور و القانون.
و نحن اليوم إذا لم نحس الوحدة و التوحد خلف دار الفتوى المرجعية الدينية الممثلة للوحي، و خلف رئاسة الحكومة الممثل الرسمي للمسلمين سياسياً و سلطوياً فلن تقوم لنا قائمة، و لن نكون سنيين حقيقيين،حتى و لو اختلفنا مع هذه المرجعيات في بعض القراءات والاجتهادات لواقعنا السياسي-الاجتماعي. فالصحابة رضوان الله عليهم تعددت آراؤهم الفقهية و السياسية، و لم يكونوا كتلة فكرية واحدة، و التنافس و الاختلاف وقع بينهم، لكن على قاعدة احترام الشرعية الشعبية الممنوحة للحاكم و المشروعية القانونية المستمدة من القانون و الدستور.
و لقد أثبتت المؤسستان الرسميتان الدينية والسياسية للمسلمين في تاريخ لبنان المعاصر مستوى متقدماً من الجدارة و الكفاءة في إدارة الشأن العام، و قدمتا و لا تزالان الشهداء من أجل الحفاظ على هوية لبنان وعروبته، و من أجل الدفاع عن حقوق المسلمين و مكتسباتهم، و قبلت بالتسويات و لم تتنازل عن الحقوق دفاعاً عن الحقيقة. فمسيرة الشهادة ابتدأت مع الرئيس رياض الصلح مروراً بالرئيس رشيد كرامي و المفتي حسن خالد و العلامة صبحي الصالح و الرئيس رفيق الحريري و غيرهم من الشهداء الأبرار على درب الحرية والكرامة.
فالمؤسسات تقوى بكم فلا تضعفوها، و لا تكونوا عوناً لجلاديكم و للشيطان على أنفسكم؛ و الله المستعان و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم. 

مقالات أخرى للكاتب

اضف تعليقاً

ابق على اطلاع بالاشتراك بنشرتنا البريدية ...

و ساعدنا في تغيير حياة المزيد